"المالحة".. أغراها القطن فخذلتها الينابيع

"المالحة".. أغراها القطن فخذلتها الينابيع

علي الخطيب

الجمعة 25 أيلول 2009




إلى الغرب قليلاً من مدينة "سلمية"، توجد مجموعة من البيوت المترامية على كتف هضبة عجوز. بيوتٌ الكل يعرفها باسم "المالحة" أو "الميْلحة" كما يلفظها أهل المنطقة، لكنها لحد الآن لا تعتبر قرية وليس لها تصنيف رسمي سوى أنها مجموعة مزارع سكنها أصحابها، لكن الكثير لا يعرفون أنه كان لها مجتمعها الخاص في يوم مضى، يومها كان أهلها يحبون بعضهم بعضاً، يسهرون، ويتعاونون، ويختلفون، ولحد الآن يذرف بعضهم الدمع كلما تذكر أيام مجدها.

موقع eSyria التقى يوم الأربعاء 23 أيلول 2009 الفنان "أمين الخطيب" الذي نشأ في كروم "المالحة"، فحدثنا عن بداية نشوء القرية قائلاً: «هذه المنطقة هي بالأصل كانت مجموعة من الأراضي الزراعية جاء أصحابها ليستثمروها، فسكنها عدد من العائلات مثل آل "زينو" و"فطوم" و"الخطيب" و"المولي" و"وردة" وغيرهم، هذا كان في بداية القرن العشرين، ثم توالت وفود العائلات إليها نظراً لتربتها الخصبة ووفرة مياهها، حيث كانت تمر عبرها قناة تدعى قناة "الحلبة"، فنشأ فيها مجتمع قروي كامل، حتى أنه أصبح لأهلها مسجد قبل كثير من القرى الكبرى حالياً».

وعن بيته في "المالحة"، وبعد ابتسامة تخفي خلفها دمعة شوق، قال: «كانت بيتنا كباقي بيوت "المالحة" يتألف من ساحة في وسطها بئر وقبة ترابية وحظيرة للحيوانات وغرف للمؤونة، وبيتنا كان فيه دكان مفتوح على الدرب وشجرة صفصاف كبيرة، كما كان هناك ساقية تمر تحت القبة الترابية، هذه القبة أذكر أنه كان فيها فتحتان واحدة في أعلى الجدار، والثانية في أسفله، والفتحتان بمثابة النوافذ هذا اليوم، وهناك بالقرب من بيتنا عدة قبور أثرية منحوتة بالصخر، طبعاً لم نكن ندرك أهميتها التاريخية لأن المجتمع كان أقل تعقيداً يومها».

أما

عن الحياة اليومية في "المالحة" أضاف: «كان الجميع يقضون أغلب وقتهم في الزراعة، حيث كانوا يتقاسمون موارد المياه بشكل منتظم وأخوي، ويتم تنظيم المياه وفق وحدة قياس تسمى "العدان" -أي الدور بالأيام-، فكل شخص كان يحق له الاستفادة من مياه القناة للري مدة يوم واحد أو أكثر، كلٌ بحسب مساحة أرضه، وفي أيام حصاد القمح كانت تأتي إلى الأراضي فرق غجرية جوالة، تقوم باستعراضات غنائية وراقصة للفلاحين أثناء عملهم مقابل القليل من القمح الذي كان عملتنا الأهم، وأيضاً كان يمر بائع جوال أذكر أنه يجر عربة فيها كل أنواع الحلويات، فيجتمع الأطفال حوله يبادلهم حلوياته بكميات قليلة من قمحهم، أما الباقي من العادات فهي كالعادات التقليدية في جميع القرى السورية».

ومجيباً على استفسارنا حول وضع "المالحة" الحالي، قال: «بدأ مجتمع "المالحة" في التشتت بعد أن قام أهلها كباقي أهالي المنطقة بقلع الكروم التي كانت تشتهر بها، ومن ثم زراعة القطن الذي أصبحت أسعاره خيالية بتوجيه من الشركات الفرنسية التي كانت بحاجة للمواد الأولية، فامتص القطن خيراتها المائية، وأفسدت المواد الكيميائية التي تتطلبها زراعته تربتها، فغارت المياه في جوف الأرض، وخذلت الينابيع قريتها، مما

اضطر أهلها إلى حفر الكثير من الآبار التي كان أكثرها يعطي ماءً فيه ملوحة خفيفة، ومن هنا جاء اسمها. نتيجة لتلك الوقائع اضطرت كثير من العائلات التي لديها بيوت في الأصل في "سلمية" للعودة إلى مدينتهم والبحث فيها عن لقمة عيشهم بعد انحدار إنتاجية أراضيهم، فبقي في "المالحة" عدد قليل من العائلات استقر أغلبهم لاحقاً في "سلمية"، وبقيت هي عبارة عن مزارع متناثرة قرب بعضهم، تسكنها القليل من الأسر التي ما زال بعض أفرادها يستثمرون الأراضي وخاصة بعد ظهور أساليب الزراعة والري الحديثة وانتشار زراعة الزيتون، كما أحدثت فيها مقبرة كبيرة خاصة بمدينة "سلمية"، أي هي تعتبر جزءاً من الأراضي المحيطة بمدينة "سلمية"، وبالتالي ليس لها أي صفة رسمية مع أنه يوجد بها سكان مستقرون ومسجدها مازال قائماً، لكنها للأسف فقدت مجتمعها القديم الذي تبعثر في شوارع المدينة الحديثة ولن يعود يوماً».

هنا كان سؤالنا عن السبب وراء عدم عودة أهلها لها، فأجاب: «الأغلبية اندمجوا بالحياة المدنية، وطريقة العيش المعقدة، ولا أحد مستعد لأن يعود ويعيش الحياة البسيطة تلك، كما أن الكثير باعوا أراضيهم وبيوتهم فيها لعائلات جديدة، يسكنوها في الصيف كنوع من

الاستجمام ليس إلا، ولكن أقول لكم أنني ما زلت كلما زرتها أو سمعت باسمها فإنني أذرف العديد من الدموع على أيام طفولتنا التي لن تعود».

هذه قصة قرية من عدة قرى كانت حية في زمان مضى، قرىً حكمت عليها معادلة الماء والمطر بأن تصبح منسية على قارعة الطريق، فمتى تغير المعادلة حكمتها؟ ومتى تعود لهذه القرى روحها التي سرقها منها جوع من أحبها يوماً؟

.

.

.

.

منقول عن www.esyria.sy/ehama